الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب: الحمد لله، سببه من هذا ومن هذا، مثل الماء إذا شربه العطشان حصل له لذة وطيب، وسببها عطشه وبرد الماء، وكذلك النار إذا وقعت في القطن سببه منها، ومن القطن. والعالم المقبل على الطالب يحصل له لذة وطيب وسرور بسبب إقبال هذا وتوجهه، وهذا حال المحب مع المحبوب. والله أعلم.
ما الحكمة في أن المشتغلين بالذكر والفكر والرياضة ومجاهدة النفس وما أشبهه يفتح عليهم من الكشوفات والكرامات وما سوى ذلك من الأحوال ـ مع قلة علمهم، وجهل بعضهم ـ ما لا يفتح على المشتغلين بالعلم ودرسه؟ والبحث عنه ؟ حتى لو بات الإنسان متوجها مشتغلا بالذكر والحضور لا بد أن يرى واقعه أو يفتح عليه شيء، ولو بات ليلة يكرر على باب من أبواب الفقه لا يجد ذلك، حتى إن كثيرًا من المتعبدين يجد للذكر حلاوة ولذة. ولا يجد ذلك عند قراءة القرآن. مع أنه قد وردت السنة بتفضيل العالم على العابد، لا سيما إذا كان العابد محتاجًا إلى علم هو مشتغل به عن العبادة. ففي الحديث: (إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب) وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل للعابدين والمجاهدين: ادخلوا الجنة، فيقول العلماء: بفضل علمنا عبدوا وجاهدوا، فيقول الله عز وجل لهم: أنتم عندي كملائكتي، اشفعوا فيشفعون. ثم يدخلون الجنة وغير ذلك من الأحاديث والآثار. ثم إن كثيرًا من المتعبدين يؤثر العبادة على طلب العلم، مع جهله بما يبطل كثيرًا من عبادته، كنواقض الوضوء، أو مبطلات الصلاة والصوم. و ربما يحكي بعضهم حكاية في هذا المعنى: بأن: [رابعة العدوية] ـ رحمها الله ـ أتت ليلة بالقدس تصلي حتى الصباح، وإلى جانبها بيت فيه فقيه يكرر على باب الحيض إلى الصباح، فلما أصبحت رابعة قالت له: يا هذا، وصل الواصلون إلى ربهم، وأنت مشتغل بحيض النساء، أو نحوها. فما المانع أن يحصل للمشتغلين بالعلم ما يحصل للمشتغلين بالعبادة مع فضله عليه ؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، لا ريب أن الذي أوتي العلم والإيمان أرفع درجة من الذين أوتوا الإيمان فقط،كما دل على ذلك الكتاب والسنة، والعلم الممدوح الذي دل عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورثته الأنبياء. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء؛ إن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر). وهذا العلم ثلاثة أقسام: /علم بالله وأسمائه وصفاته: وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص، وآية الكرسي، ونحوهما. والقسم الثاني: العلم بما أخبر الله به، مما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة، وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل الله آيات القصص، والوعد، والوعيد وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك. والقسم الثالث: العلم بما أمر الله به من الأمور المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها وأقوال الجوارح وأعمالها، و هذا العلم يندرج فيه العلم بأصول الإيمان وقواعد الإسلام ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، وهذا العلم يندرج فيه ما وجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة، فإن ذلك جزء من جزء من جزء من علم الدين، كما أن المكاشفات التي تكون لأهل الصفا جزء من جزء من جزء من علم الأمور الكونية. والناس إنما يغلطون في هذه المسائل، لأنهم يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فرب رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن ولا يكون له من الفهم، بل ولا من الإيمان ما يتميز به على من أوتي /القرآن ولم يؤت حفظ حروف العلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها). فقد يكون الرجل حافظًا لحروف القرآن وسوره، ولا يكون مؤمنا بل يكون منافقًا. فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه وسوره خير منه. وإن كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما ينتفع بالريحان. وأما الذي أوتي العلم والإيمان فهو مؤمن عليم، فهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مثل اشتراكهما في الإيمان، فهذا أصل تجب معرفته. وههنا [أصل آخر] وهو أنه ليس كل عمل أورث كشوفًا أو تصرفًا في الكون يكون أفضل من العمل الذي لا يورث كشفًا وتصرفًا، فإن الكشف والتصرف إن لم يكن مما يستعان به على دين الله وإلا كان من متاع الحياة الدنيا. وقد يحصل ذلك للكفار من المشركين وأهل الكتاب، وإن لم يحصل لأهل الإيمان الذين هم أهل الجنة، وأولئك أصحاب النار. /ففضائل الأعمال ودرجاتها لا تتلقى من مثل هذا، وإنما تتلقى من دلالة الكتاب والسنة، ولهذا كان كثير من الأعمال يحصل لصاحبه في الدنيا رئاسة ومال، فأكرم الخلق عند الله أتقاهم، ومن عبد الله بغيرعلم فقد أفسد أكثر مما يصلح، وإن حصل له كشف وتصرف، وإن اقتدى به خلق كثير من العامة، وقد بسطنا الكلام في هذا الباب في مواضعه، فهذا [أصل ثان]. و[أصل ثالث] أن تفضيل العمل على العمل قد يكون مطلقًا مثل تفضيل أصل الدين على فرعه، وقد يكون مقيدًا. فقد يكون أحد العملين في حق زيد أفضل من الآخر، والآخر في حق عمرو أفضل، وقد يكونان متماثلين في حق الشخص، وقد يكون المفضول في وقت أفضل من الفاضل، وقد يكون المفضول في حق من يقدر عليه وينتفع به أفضل من الفاضل في حق من ليس كذلك. مثال ذلك: أن قراءة القرآن أفضل من مجرد الذكر بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة ـ ولا اعتبار بمن يخالف ذلك من جهال العباد ـ ثم الركوع والسجود ينهي فيه عن قراءة القرآن، ويؤمر فيه بالذكر، وكذلك الذكر والدعاء في الطواف وعرفة ونحوهما، أفضل من قراءة القرآن، وكذلك الأذكار المشروعة: مثل ما يقال عند سماع النداء ودخول المسجد والمنزل والخروج منهما، وعند سماع /الديكة والحمر ونحو ذلك أفضل من قراءة القرآن في هذا الموطن، وأيضًا فأكثر السالكين إذا قرؤوا القرآن لا يفهمونه. وهم بعد لم يذوقوا حلاوة الإيمان الذي يزيدهم بها القرآن إيمانًا، فإذا أقبلوا على الذكر أعطاهم الذكر من الإيمان ما يجدون حلاوته ولذته، فيكون الذكر أنفع لهم حينئذ من قراءة لا يفهمونها، ولا معهم من الإيمان ما يزداد بقراءة القرآن، أما إذا أوتي الرجل الإيمان فالقرآن يزيده من الإيمان ما لا يحصل بمجرد الذكر، فهذا [أصل ثالث]. و[أصل رابع] وهو أن الرجل قد يأتي بالعمل الفاضل من غير قيام بشروطه، ولا إخلاص فيه، فيكون بتفويت شرائطه دون من أتى بالمفضول المكمل. فهذه الأصول ونحوها تبين جواب هذا السائل، وإن كان تفصيل ذلك لا تتسع له الورقة ،والله أعلم.
/ فأجاب : لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه. وهو شر من قول اليهود والنصارى، فإن اليهودي والنصراني آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض، وأولئك هم الكافرون حقا كما ذكر أنهم يقرون بأن لله أمرًا ونهيًا، ووعدًا ووعيدًا، وأن ذلك متناول لهم إلى حين الموت. هذا إن كانوا متمسكين باليهودية والنصرانية المبدلة المنسوخة. وأما إن كانوا من منافقي أهل ملتهم ـ كما هو الغالب على متكلمهم /ومتفلسفهم ـ كانوا شرًا من منافقي هذه الأمة، حيث كانوا مظهرين للكفر ومبطنين للنفاق، فهم شر ممن يظهر إيمانًا ويبطن نفاقًا. والمقصود أن المتمسكين بجملة منسوخة فيها تبديل خير من هؤلاء الذين يزعمون سقوط الأمر والنهي عنهم بالكلية، فإن هؤلاء خارجون في هذه الحال عن جميع الكتب والشرائع والملل، لا يلتزمون لله أمرًا ولا نهيًا بحال، بل هؤلاء شر من المشركين المستمسكين ببقايا من الملل: كمشركي العرب الذين كانوا مستمسكين ببقايا من دين إبراهيم عليه السلام، فإن أولئك معهم نوع من الحق يلتزمونه، وإن كانوا مع ذلك مشركين، وهؤلاء خارجون عن التزام شيء من الحق، بحيث يظنون أنهم قد صاروا سدى لا أمر عليهم ولا نهي. فمن كان من قوله هو أنه أو طائفة غيره قد خرجت عن كل أمر ونهي، بحيث لا يجب عليها شيء، ولا يحرم عليها شيء، فهؤلاء أكفر أهل الأرض، وهم من جنس فرعون وذويه،وهم مع هذا لا بد أن يلتزموا بشيء يعيشون به، إذ لا يمكن النوع الإنساني أن يعيش إلا بنوع أمر ونهي، فيخرجون عن طاعة الرحمن وعبادته إلى طاعة الشيطان وعبادته، ففرعون هو الذي قال لموسى: /ولكن كثيرا من هؤلاء لا يطلقون السلب العام، ويخرجون عن ربقة العبودية مطلقًا. بل يزعمون سقوط بعض الواجبات عنهم، أو حل بعض المحرمات لهم، فمنهم من يزعم أنه سقطت عنه الصلوات الخمس لوصوله إلى المقصود وربما قد يزعم سقوطها عنه إذا كان في حال مشاهدة وحضور، وقد يزعمون سقوط الجماعات عنهم استغناء عنها بما هو فيه من التوجه والحضور، ومنهم من يزعم سقوط الحج عنه مع قدرته عليه، لأن الكعبة تطوف به،أو لغير هذا من الحالات الشيطانية، ومنهم من يستحل الفطر في رمضان لغير عذر شرعي زعمًا منه استغناؤه عن الصيام، ومنهم من يستحل الخمر زعمًا منه أنها إنما تحرم على العامة الذين إذا شربوها تخاصموا وتضاربوا دون الخاصة العقلاء، ويزعمون أنها تحرم على العامة الذين ليس لهم أعمال صالحة، فأما أهل النفوس الزكية والأعمال الصالحة، فتباح لهم دون العامة. وهذه [الشبهة] كانت قد وقعت لبعض الأولين، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن عبد الله شربها هو وطائفة وتأولوا قوله تعالى: وقال عمر /لقدامة: أخطأت استك الحفرة. أما أنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر، وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب: أن الله سبحانه لما حرم الخمر ـ وكان تحريمها بعد وقعة أحد ـ قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم تحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين. وهذا كما أنه لما صرف القبلة وأمرهم باستقبال الكعبة بعد أن كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس، فقال الله تعالى: وهذا الذي اتفق عليه الصحابة،هو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك، ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة: كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة: كالفواحش، والظلم والخمر والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة: كالخبز واللحم والنكاح ـ فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإن أضمر ذلك كان زنديقًا منافقًا ،لا يستتاب عند أكثر العلماء، بل يقتل بلا استتابة، إذا ظهر ذلك منه. ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش: كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلو بهن، زعمًا منه أنه يحصل لهن البركة بما يفعله معهن وإن كان محرمًا في الشريعة. وكذلك من يستحل ذلك من المردان ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم ومباشرتهم هو طريق لبعض السالكين حتى يترقى من محبة المخلوق إلى محبة الخالق ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى، وقد يستحلون الفاحشة الكبرى، كما يستحلها من يقول: إن التلوط مباح بملك اليمين. فهؤلاء كلهم كفار باتفاق المسلمين، وهم /بمنزلة من يستحل قتل المسلمين بغير حق، ويسبي حريمهم ويغنم أموالهم، وغير ذلك من المحرمات، التي يعلم أنها من المحرمات تحريمًا ظاهرًا متواترًا. لكن من الناس من يكون جاهلا ببعض هذه الأحكام جهلا يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى: أحدهما: لا يجب عليه القضاء، وهو مذهب أبي حنيفة. والثاني: يجب عليه القضاء، وهو المشهور عند أصحاب الشافعي، بل النزاع بين العلماء في كل من ترك واجبًا قبل بلوغ الحجة: مثل ترك الصلاة عند عدم الماء يحسب أن الصلاة لا تصح بتيمم، أو من أكل حتى تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ويحسب أن ذلك هو المراد بالآية، كما جرى ذلك /لبعض الصحابة، أو مس ذكره، أو أكل لحم الإبل ولم يتوضأ، ثم تبين له وجوب ذلك، وأمثال هذه المسائل هل يجب عليه القضاء؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره. وأصل ذلك هل يثبت حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه؟ على [ثلاثة أقوال] في مذهب أحمد وغيره: قيل: يثبت مطلقًا، وقيل: لا يثبت مطلقًا، وقيل: يفرق بين الخطاب الناسخ، والخطاب المبتدأ، كأهل القبلة. والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية: أن الخطاب لا يثبت في حق أحد قبل التمكن من سماعه، فإن القضاء لا يجب عليه في الصور المذكورة ونظائرها مع اتفاقهم على انتفاء الإثم؛ لأن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، فإذا كان هذا في التأثيم فكيف في التكفير. وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرًا مما يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول، ولهذا جاء في الحديث: (يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا /صومًا ولا حجًا إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، يقول: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله، وهم لا يدرون صلاة ولا زكاة ولا حجا، فقال: ولا صوم ينجيهم من النار). وقد دل على هذا الأصل ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال رجل ـ لم يعجل حسنة قط ـ لأهله إذا مات فحرقوه، ثم أذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبنه أحدًا من العالمين. فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه،ثم قال: لم فعلت هذا ؟ قال: من خشيتك يارب، وأنت أعلم؛ فغفر الله له)، وفي لفظ آخر: (أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في البحر. فوالله لئن قدر على ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا. قال: ففعلوا ذلك به. فقال للأرض: أدّ ما أخذت، فإذا هو قائم. فقال له: ما حملك على ما صنعت. قال: خشيتك يارب. أو قال: مخافتك، فغفر له بذلك)، وفي طريق آخر: (قال الله لكل شيء أخذ منه شيئًا: أد ما أخذت منه ). وقد أخرج البخاري هذه القصة من حديث حذيفة وعقبة بن عمرو أيضًا عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان /رجل فيمن كان قبلكم كان يسىء الظن بعمله، فقال لأهله: إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف ففعلوا، فجمعه الله. ثم قال: ما حملك على الذي فعلت؟ فقال: ما حملني إلا مخافتك، فغفر له). وفي طريق آخر: (إن رجلا حضره الموت، فلما يئس من الحياة أوصى أهله إذا أنا مت، فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا، وأوقدوا فيه نارًا حتى إذا أكلت لحمي، ووصلت إلى عظمي، فامتحشت، فخذوها فاطحنوها ثم انظروا يومًا فذروني في اليم. فجمعه الله فقال له: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك. فغفر الله له) قال عقبة بن عمرو: أنا سمعته ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ يقول ذلك: (وكان نباشًا). فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى، وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر. لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلًا بذلك، ضالًا في هذا الظن مخطئًا. فغفر الله له ذلك، والحديث صريح في أن الرجل طمع ألا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكا في المعاد، وذلك كفر ـ إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره ـ هو بين في عدم إيمانه /بالله تعالى ومن تأول قوله: لئن قدر الله على بمعنى قضى، أو بمعنى ضيق، فقد أبعد النجعة، وحرف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد. وقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا. فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنه سبب لها، وإنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقرًا بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل لم يكن في ذلك فائدة له، ولأن التقدير عليه والتضييق موافقان للتعذيب، وهو قد جعل تفريقه مغايرًا، لأن يقدر الرب. قال: فوالله، لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين، فلا يكون الشرط هو الجزاء، ولأنه لو كان مراده ذلك لقال: فوالله لئن جازاني ربي أو لئن عاقبني ربي ليعذبني عذابًا، كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك، ولأن لفظ: [قدر] بمعنى ضيق لا أصل له في اللغة. ومن استشهد علي ذلك بقوله: وأما [قدر] بمعنى قَدَّرَ أي أراد تقدير الخير والشر، فهو لم يقل: إن قدر علي ربي العذاب، بل قال: لئن قدر علي ربي، والتقدير يتناول النوعين، فلا يصح أن يقال: لئن قضى الله علي؛ لأنه قد مضى وتقرر عليه ما ينفعه وما يضره، ولأنه لو كان المراد التقدير أو التضييق لم يكن ما فعله مانعًا من ذلك في ظنه،ودلائل فساد هذا التحريف كثيرة ليس هذا موضع بسطها،فغاية ما في هذا أنه كان رجلا لم يكن عالمًا بجميع ما يستحقه الله من الصفات، وبتفصيل أنه القادر، وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك، فلا يكون كافرًا. ومن تتبع الأحاديث الصحيحة وجد فيها من هذا الجنس ما يوافقه كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي التي النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه فوضعها عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، واضطجع فلم يثبت إلا ريثما ظن أني رقدت، فأخذ رداءه رويدًا، وانتقل رويدًا، وفتح الباب رويدًا، فخرج، ثم أجافه رويدًا، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه /ثلاث مرات،ثم انحرف فانحرفت وأسرع فأسرعت فهرول وهرولت وأحضر وأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فقال: (ما لك يا عائشة حَشْيَاءَ رابية ؟) قالت: لاشيء. قال: (لتخبريني،أو ليخبرني اللطيف الخبير). قالت: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته. قال: (فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟) قلت: نعم، فلهزني في صدري لهزة أوجعتني. ثم قال: (أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله ؟!) قالت: قلت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، قال: (نعم). قال: (فإن جبريل ـ عليه السلام ـ أتاني حين رأيت فناداني، فأخفاه منك فأجبته وأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننتُ أنك رقدت، وكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي ـ فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم) قلت: كيف أقول يا رسول الله ؟ قال قولي: (السلام على أهل الديار من المؤمنين، والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ). فهذه عائشة أم المؤمنين، سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم)، وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك /بعد قيام الحجة من أصول الإيمان، وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء، هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب، و لهذا لهزها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟!) وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع. فقد تبين أن هذا القول كفر، ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها، ودلائل فساد هذا القول كثيرة في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها ومشائخها، لا يحتاج إلى بسطها، بل قد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن الأمر والنهي ثابت في حق العباد إلى الموت. وأما قول القائل:هل يصدر ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي صلى الله عليه وسلم؟. فيقال: هذا لا يصدر عمن هو مقر بالنبوات مطلقًا، بل قائل ذلك كافر بجميع الأنبياء والمرسلين؛ لأنهم جميعًا أتوا بالأمر والنهي للعباد إلى حين الموت بل لايصدر هذا القول ممن في قلبه خضوع لله وإقرار بأنه إله العالم، فإن هذا الإقرار يستلزم أن يكون الإنسان عبدًا لله خاضعًا له، ومن سوغ لإنسان أن يفعل ما يشاء من غير تعبد بعبادة الله، فقد أنكر أن يكون الله إلهه. /وأما قولهم: إنهم قد تجوهروا، فقالوا: لا نبالي الآن ماعملنا ؟ فيقال لهم: ماذا تعنون بقولكم؟ فإن أرادوا أن النفس بقيت صافية طاهرة، لا تنازع إلى الشهوات والأهواء المردية، فهذا لو كان حقًا لكان معناه: أن النفس قد صارت مطيعة ليس فيها دواعي المعصية فتكون منقادة إلى فعل المأمور، ولا تميل إلى المحظور، وهذا غايته أن تكون معصومة لا تطلب فعل القبيح، وهذا ما يخرجها أن تكون مأمورة منهية كالملائكة. وإذا قال مثل هؤلاء: لا ينافى ما عملنا، قيل لهم: الذي تعملونه إن كان من جنس الأهواء المردية فقد تناقضتم في زعمكم أن نفوسكم لم يبق لها هوى، وإن كان من جنس الأعمال الصالحة فهذا جنس لا ينكر، فعلم أنهم متناقضون في هذا الكلام إذا أرادوا بتجوهر النفس صفاءها وطهارتها عن الأكدار البشرية، مع أن هذا الكمال ممتنع في حق البشر ما دامت الأرواح في الأجسام، ولهذا أنكر المشائخ ذلك على من ادعاه، كالآثار المعروفة في ذلك عن الشيخ أبي علي الروذباري [أبو علي الروذباري هو:أحمد بن محمد بن القاسم بن منصور، وقيل: اسمه حسن بن هارون شيخ الصوفية، سكن مصر، وصحب الجنيد، وأبا الحسين النووي حدَّث عن مسعود الرملي وغيره وقال: أستاذي في الفقه ابن سريج، وفي الأدب ثعلب، وفي الحديث إبراهيم الحربي. قال أبو علي الكاتب: ما رأيت أحدًا أجمع لعلم الشريعة والحقيقة من أبي علي. توفى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 41/535، 536]، وغيرهم وأعظم الناس درجة الأنبياء عليهم السلام، وقد أمرهم الله بالتوبة والاستغفار، حتى خاتم الرسل أمره الله في أواخر ما أنزل عليه من القرآن ما أمره به بقوله: /ولهذا كان الذي عليه سلف الأمة وأئمتها أن الأنبياء إنما هم معصومون من الإقرار على الذنوب،وإن الله يستدركهم بالتوبة التي يحبها الله ـ وأما قولهم: حاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة، فلا ريب أن الله يبعث الأنبياء لما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد، ولا ريب أن الله أمر العباد بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم، ولا ريب أن الحكمة هي العلم والعمل بها، كما فسرها بذلك مالك بن أنس وغيره من الأئمة، لكن أي شيء في هذا مما يوجب سقوطها عن بعض العباد؟ وإنما يخرج عن الحكمة والمصلحة من يكون سفيها مفسدًا وأما قولهم: المراد منها ضبط العوام ولسنا نحن من العوام. فالكلمة الأولى: زندقة ونفاق،والثانية كذب واختلاق، فإنه ليس المراد من الشرائع مجرد ضبط العوام، بل المراد منها الصلاح باطنًا /وظاهرًا، للخاصة والعامة في المعاش والمعاد، ولكن في بعض فوائد العقوبات المشروعة في الدنيا ضبط العوام. كما قال عثمان ابن عفان ـ رضي الله عنه: (إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن) فإن من يكون من المنافقين والفجار فإنه ينزجر بما يشاهده من العقوبات، وينضبط عن انتهاك المحرمات، فهذا بعض فوائد العقوبات السلطانية المشروعة. وأما فوائد الأمر والنهي :فأعظم من أن يحصيها خطاب أو كتاب، بل هي الجامعة لكل خير يطلب ويراد، وفي الخروج عنها كل شر وفساد. ودعوى هؤلاء أنهم من الخواص، يوجب أنهم من حثالة منافقي العامة، وهم داخلون فيما نعت الله به المنافقين في قوله: ومن هؤلاء من يحتج بقوله: ومنهم من يظن استغناءه عن النوافل حينئذ، وهذا مغبون منقوص جاهل ضال خاسر باعتقاد الاستغناء عن النوافل واستخفافه بها حينئذ، /بخلاف من تركها معتقدًا كمال من فعلها حينئذ معظمًا لحاله، فإن هذا ليس مذمومًا، وإن كان الفاعل لها مع ذلك أفضل منه، أو يكون هذا من المقربين السابقين، وهذا من المقتصدين ،أصحاب اليمين. ومن هؤلاء من يظن أن الاستمساك بالشريعة ـ أمرًا ونهيًا ـ إنما يجب عليه ما لم يحصل له من المعرفة أو الحال، فإذا حصل له لم يجب عليه حينئذ الاستمساك بالشريعة النبوية، بل له حينئذ أن يمشي مع الحقيقة الكونية القدرية، أو يفعل بمقتضى ذوقه ووجده وكشفه ورأيه من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وهؤلاء منهم من يعاقب بسلب حاله حتى يصير منقوصًا عاجزًا محرومًا، ومنهم من يعاقب بسلب الطاعة حتى يصير فاسقًا، ومنهم من يعاقب بسلب الإيمان حتى يصير مرتدًا منافقًا، أو كافرًا ملعنًا. وهؤلاء كثيرون جدًا، وكثير من هؤلاء يحتج بقصة موسى والخضر. فأما استدلالهم بقوله تعالى: و[يقين] على وزن فعيل، وسواء كان فعيل بمعنى مفعول، أي الموت. كالحبيب والنصيح والذبيح، أو كان مصدرًا وضع موضع المفعول. كقوله: فإما أن يظن أن المراد: اعبده حتى يحصل لك إيقان، ثم لا عبادة /عليك. فهذا كفر باتفاق أئمة المسلمين، ولهذا لما ذكر للجنيد بن محمد أن قومًا يزعمون أنهم يصلون من طريق البر إلى ترك العبادات. فقال: الزنا والسرقة وشرب الخمر خير من قول هؤلاء، ومازال أئمة الدين ومشائخه يعظمون النكير على هؤلاء المنافقين، وإن كانوا من الزهاد العابدين وأهل الكشف والتصرف في الكون وأرباب الكلام والنظر في العلوم، فإن هذه الأمور قد يكون بعضها في أهل الكفر والنفاق ومن المشركين وأهل الكتاب. وإنما الفاصل بين أهل الجنة وأهل النار، الإيمان والتقوى. الذي هو نعت أولياء الله. كما قال: أحدهما: أن يقولوا: إن الخضر كان مشاهدا الإرادة الربانية الشاملة، والمشيئة الإلهية العامة، وهي [الحقيقة الكونية]. فلذلك سقط عنه الملام فيما خالف فيه الأمر والنهي الشرعي، وهو من عظيم الجهل والضلال، بل من عظيم النفاق والكفر، فإن مضمون هذا الكلام: أن من آمن بالقدر وشهد أن الله رب كل شيء، لم يكن عليه أمر ولا نهي، وهذا كفر بجميع كتب الله و رسله ،وما جاؤوا به من الأمر والنهي، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا: وهؤلاء هم: [القدرية المشركية] الذين يحتجون بالقدر على دفع الأمر والنهي هم شر من القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة، الذين روى فيهم: (إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)؛ لأن هؤلاء يقرون بالأمر والنهي والثواب والعقاب، لكن أنكروا عموم الإرادة والقدرة والخلق، وربما أنكروا سابق العلم. وأما [القدرية المشركية] فإنهم ينكرون الأمر والنهي والثواب والعقاب، لكن وإن لم ينكروا عموم الإرادة والقدرة والخلق، فإنهم ينكرون الأمر والنهي والوعد والوعيد، ويكفرون بجميع الرسل والكتب، فإن الله إنما أرسل الرسل مبشرين، من أطاعهم بالثواب. ومنذرين من عصاهم بالعقاب. وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع غير هذا. /وأيضًا، فإن موسى عليه السلام كان مؤمنًا بالقدر، وعالمًا به، بل أتباعه من بني إسرائيل كانوا أيضًا مؤمنين بالقدر. فهل يظن من له أدنى عقل أن موسى طلب أن يتعلم من الخضر الإيمان بالقدر، وإن ذلك يدفع الملام، مع أن موسى أعلم بالقدر من الخضر، بل عموم أصحاب موسى يعلمون ذلك. وأيضًا، فلو كان هذا هو السر في قصة الخضر بين ذلك لموسى. وقال: إني كنت شاهدًا للإرادة والقدر، وليس الأمر كذلك، بل بين له أسبابًا شرعية تبيح له ما فعل. كما سنبينه إن شاء الله تعالى . وأما [الوجه الثاني]: فإن من هؤلاء من يظن: إن من الأولياء من يسوغ له الخروج عن الشريعة النبوية، كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى، وأنه قد يكون للولي في المكاشفة والمخاطبة ما يستغنى به عن متابعة الرسول في عموم أحواله أو بعضها، وكثير منهم يفضل الولي في زعمه، إما مطلقًا، وإما من بعض الوجوه على النبي، زاعمين أن في قصة الخضر حجة لهم، وكل هذه المقالات من أعظم الجهالات والضلالات بل من أعظم أنواع النفاق والإلحاد والكفر. فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن رسالة محمد بن عبد/الله صلى الله عليه وسلم لجميع الناس: عربهم وعجمهم، وملوكهم وزهادهم وعلمائهم وعامتهم، وإنها باقية دائمة إلى يوم القيامة، بل عامة الثقلين الجن والإنس، وإنه ليس لأحد من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين. وما سنه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات، بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعته ومطاوعته. وقال الله تعالى: وفي سنن النسائي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: (أمتهوكون [التهوك: كالتهور، وهو الوقوع في الأمر بغير روية. النهاية 5/282] يا بن الخطاب ؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي) ـ هذا أو نحوه ـ ورواه أحمد في المسند ولفظه: (ولو كان موسي حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم). وفي مراسيل أبي داود قال: (كفى بقوم ضلالة أن يبتغوا كتابًا غير كتابكم. أنزل على /نبي غير نبيهم ) وأنزل الله تعالى: بل قد ثبت بالأحاديث الصحيحة: (أن المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء فإنه يكون متبعًا لشريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم) فإذا كان صلى الله عليه وسلم يجب اتباعه ونصره على من يدركه من الأنبياء. فكيف بمن دونهم؟ بل مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره، كموسى وعيسى. فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة رسول، فكيف بالخروج عنه والرسل؟ كما قال تعالى: /ولهذا لما كان قد دخل فيما ينقله أهل الكتاب عن الأنبياء تحريف وتبديل، كان ما علمنا أنه صدق عنهم آمنا به، وما علمنا أنه كذب رددناه، وما لم نعلم حاله لم نصدقه ولم نكذبه، كما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم.فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوهم، وإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوهم. وقولوا: آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم). ومما يبين الغلط الذي وقع لهم في الاحتجاج بقصة موسى والخضر على مخالفة الشريعة: أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثًا إلى الخضر ولا أوجب الله على الخضر متابعته وطاعته، بل قد ثبت في الصحيحين: أن الخضر قال له: يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله، علمكه الله لا أعلمه. وذلك أن دعوة موسى كانت خاصة. وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ـ فيما فضله الله به على الأنبياء ـ قال: (كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة) فدعوة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة لجميع العباد، ليس لأحد الخروج عن متابعته وطاعته، ولا استغناء عن رسالته، كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى وطاعته /مستغنيًا عنه بما علمه الله. وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن يقول لمحمد: إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، ومن سوغ هذا أو اعتقد أن أحدًا من الخلق ـ الزهاد والعباد أو غيرهم ـ له الخروج عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ومتابعته، فهو كافر باتفاق المسلمين. ودلائل هذا من الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر هنا. وقصة الخضر ليس فيها خروج عن الشريعة؛ ولهذا لما بين الخضر لموسى الأسباب التي فعل لأجلها ما فعل وافقه موسى، ولم يختلفا حينئذ. ولو كان ما فعله لالخضر مخالفًا لشريعة موسى لما وافقه. ومثل هذا وأمثاله يقع للمؤمنين بأن يختص أحد الشخصين بالعلم بسبب يبيح له الفعل في الشريعة، والآخر لا يعلم ذلك السبب، وإن كان قد يكون أفضل من الأول. مثل شخصين: دخلا إلى بيت شخص، وكان أحدهما يعلم طيب نفسه بالتصرف في منزله، إما بإذن لفظي أو غيره، فيتصرف. وذلك مباح في الشريعة، والآخر الذي لم يعلم هذا السبب لا يتصرف، وخرق السفينة كان من هذا الباب، فإن الخضر كان يعلم أن أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا، وكان من المصلحة التي يختارها أصحاب السفينة، إذا علموا ذلك؛ لئلا يأخذها ... خير من انتزاعها منهم. /ونظير هذا حديث الشاة التي أصابها الموت فذبحتها امرأة بدون إذن أهلها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنها فأذن لهم في أكلها ولم يلزم التي ذبحت بضمان ما نقصت بالذبح؛ لأنه كان مأذونًا فيه عرفًا، والأذن العرفي كالإذن اللفظي؛ ولهذا بايع النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان في غيبته بدون استئذانه لفظًا، ولهذا لما دعاه أبو طلحة ونفرًا قليلاً إلى بيته، قام بجميع أهل المسجد، لما علم من طيب نفس أبي طلحة، وذلك لما يجعله الله من البركة. وكذلك حديث جابر. وقد ثبت أن لحامًا دعاه فاستأذنه في شخص يستتبعه؛ لأنه لم يكن يعلم من طيب نفس اللحام ما علمه من طيب نفس أبي طلحة وجابر وغيرهما، وكذلك قتل الغلام كان من باب دفع الصائل على أبويه، لعلمه بأنه كان يفتنهما عن دينهما؛ وقتل الصبيان يجوز إذا قاتلوا المسلمين، بل يجوز قتلهم لدفع الصول على الأموال لهذا ثبت في صحيح البخاري أن نجدة الحروري لما سأل ابن عباس عن قتل الغلمان قال: إن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من الغلام فاقتلهم، وإلا فلا تقتلهم. وكذلك في الصحيحين: أن عمر لما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل ابن صياد، وكان مراهقًا، لما ظنه الدجال، فقال: (إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله) فلم يقل: إن يكنه فلا خير لك في قتله، بل قال: ( فلن تسلط عليه). /وذلك يدل على أنه لو أمكن إعدامه قبل بلوغه لقطع فساده لم يكن ذلك محذورًا، وإلا كان التعليل بالصغر كافيًا، فإن الأعم إذا كان مستقلاً بالحكم كان الأخص عديم التأثير، كما قال في الهرة: ( إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات). وأما بناء الجدار فإنما فيه ترك أخذ الجعل مع جوعهم، وقد بين الخضر: أن أهله فيهم من الشيم وصلاح الوالد ما يستحقون به التبرع، وإن كان جائعًا. ومن ذلك أن من أسباب الوجوب والتحريم والإباحة ما قد يكون ظاهرًا، فيشترك فيها الناس، ومنه ما يكون خفيًا عن بعضهم ظاهرًا لبعضهم على الوجه المعتاد، ومنه ما يكون خفيًا يعرف بطريق الكشف، وقصة الخضر من هذا الباب. وذلك يقع كثيرًا في أمتنا. مثل أن يقدم لبعضهم طعام فيكشف له أنه مغصوب فيحرم عليه أكله، وإن لم يحرم ذلك على من لم يعلم ذلك. أو يظفر بمال يعلم أن صاحبه أذن له فيه فيحل له أكله، فإنه لا يحل ذلك لمن لم يعلم الإذن. وأمثال ذلك. فمثل هذا إذا كان الشيخ من المعروفين بالصدق والإخلاص كان مثل هذا من مواقع الاجتهاد، الذي يصيب فيه تارة ويخطئ أخرى، /فإن المكاشفات يقع فيها من الصواب والخطأ نظير ما يقع في الرؤيا وتأويلها، والرأي، والرواية، وليس شيء معصومًا على الإطلاق إلا ما ثبت عن الرسول، ولهذا يجب رد جميع الأمور إلى ما بعث به ولهذا كان الصديق المتلقى عن الرسول كل شيء، مثل أبي بكر أفضل من المحدث مثل عمر، وكان الصديق يبين للمحدث المواضع التي اشتبهت عليه، حتى يرده إلى الصواب، كما فعل أبو بكر بعمر يوم الحديبية، ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قتال مانعى الزكاة، وغير ذلك. وهذا الباب قد بسطناه في غير هذا الموضع. والمقصود أنه ليس في قصة الخضر ما يسوغ مخالفة شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من الخلق. نعم لفظ [الشرع] قد صار فيه اشتراك في عرف العامة، منهم من يجعله عبارة عن حكم الحكام، ولا ريب أن حكم الحاكم قد يطابق الحق في الباطن، وقد يخالفه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أم سلمة: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار). وقد اتفق المسلمون على أن حكم الحاكم بالحقوق المرسلة لا يغير الشيء عن صفته في الباطن، فلو حكم بمال زيد لعمر، لإقرار أو بينة /كان ذلك باطلاً في الباطن، ولم يبح ذلك له في الباطن، ولا يجوز له أخذه مع العلم بالحال باتفاق المسلمين، وكذلك عند جماهير الأمة لو حكم بعقد أو فسخ نكاح أو طلاق وبيع فإن حكمه لا يغير الباطن عندهم. وإن كان منهم من يقول: حكمه يغير ذلك في هذا الموضع؛ لأن له ولاية العقود والفسوخ. فالصحيح قول الجمهور، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وسائر فقهاء أهل الحجاز والحديث، وكثير من فقهاء العراق. وأيضًا فلفظ [الشرع] في هذا الزمان، يطلق على ثلاثة معان: شرع منزل، وشرع متأول، وشرع مبدل. [فالمنزل]: الكتاب والسنة، فهذا الذي يجب اتباعه على كل واحد، ومن اعتقد أنه لا يجب اتباعه على بعض الناس فهو كافر. و[المتأول] موارد الاجتهاد التي تنازع فيها العلماء، فاتباع أحد المجتهدين جائز لمن اعتقد أن حجته هي القوية، أو لمن ساغ له تقليده ولا يجب على عموم المسلمين اتباع أحد بعينه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكثير من المتفقهة إذا رأى بعض الناس من المشائخ الصالحين، يرى أنه يكون الصواب مع ذلك، وغيره قد خالف /الشرع، وإنما خالف ما يظنه هو الشرع، وقد يكون ظنه خطأ فيثاب على اجتهاده، وخطؤه مغفور له وقد يكون الآخر مجتهدا مخطئًا. وأما [الشرع المبدل]: فمثل الأحاديث الموضوعة، والتأويلات الفاسدة والأقيسة الباطلة والتقليد المحرم، فهذا يحرم أيضًا، وهذا من مثار النزاع، فإن كثيرًا من المتفقهة والمتكلمة قد يوجب على كثير من المتصوفة والمتفقرة اتباع مذهبه المعين، وتقليد متبوعه، والتزام حكم حاكمه باطنًا وظاهرًا، ويرى خروجه عن ذلك خروجًا عن الشريعة المحمدية، وهذا جهل منه وظلم، بل دعوى ذلك على الإطلاق كفر ونفاق. كما أن كثيرًا من المتصوفة والمتفقرة يرى مثل ذلك في شيخه ومتبوعه، وهو في هذا نظير ذلك. وكل من هؤلاء قد يسوغ الخروج عما جاء به الكتاب والسنة، لما يظنه معارضًا لهما، إما لما يسميه هذا ذوقًا ووجدًا، ومكاشفات ومخاطبات، وإما لما يسميه هذا قياسًا ورأيًا وعقليات وقواطع، وكل ذلك من شعب النفاق، بل يجب على كل أحد تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به، وطاعته في جميع ما أمر به، وليس لأحد أن يعارضه بضرب الأمثال، ولا بآراء الرجال، وكل ما عارضه فهو خطأ وضلال. /وقد ذكرنا من تفصيل ذلك في غيرهذا الموضع ما لا يتسع له هذا المجال. والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، من الأقوال والأفعال الباطنة والظاهرة، وفي جميع الأحوال. والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله وحده، وصلواته وسلامه على نبيه محمد وآله وصحبه وسلم.
|